سدن سالم - لم يعد العراقيون بحاجة إلى قنوات فضائية لإثارة الجدل، ولا إلى صحف ورقية لتوزيع الفضائح. يكفي الدخول إلى تطبيق “تيك توك” ليجد المرء نفسه في مواجهة جيش من “البلوكرات” اللواتي اتخذن من البث المباشر منصة لتسويق كل ما هو صادم، خادش، ومثير للجدل.
سمراء بغداد: شهرة خاطفة وسقوط أسرع
ظهرت سمراء بغداد – واسمها الحقيقي براء عطا الله – لتتصدر المشهد الافتراضي بخطوات بسيطة: بعض الحركات الاستعراضية، كلمات خارجة عن المألوف، وضحكات مصطنعة على الهواء. لكن طريق الشهرة انتهى سريعًا ببلاغ رسمي واعتقال بتهمة “المحتوى الهابط”. هكذا تحولت من نجمة “لايف” إلى ملف قضائي خلال ساعات، وكأن الشهرة في العراق لا تحتاج سوى إلى خمسة عشر ثانية من “ريلز” وخمس ثوانٍ من مذكرة توقيف.
زينب بنت الديوانية: من الشاشة إلى المحكمة
لم يختلف الحال كثيرًا مع زينب بنت الديوانية، التي كانت تصرّ على أن لايفاتها مجرد “ترفيه بريء”. لكن الدولة رأت الأمر تهديدًا للحياء العام. انتقلت صورتها من شاشة الهاتف إلى قاعة المحكمة، ومن “متابعة مباشرة” إلى “قضية مباشرة”.
بنين الموسوي: الحجاب ترند والجدل مستمر
أما بنين الموسوي، فهي أكثر مهارة في تحريك الرأي العام من خلال مزيج محسوب من الإثارة والجدل. مرّةً بالحجاب ومرّةً بدونه، مرّةً بحديث مستفز ومرّةً بظهور صاخب. النتيجة واحدة: تيك توك يمنحها جمهورًا ضخمًا، والسلطات تمنحها ملفًا متخمًا بالاتهامات.
لجنة المحتوى الهابط: شرطة الأخلاق الرقمية
ولأن العراق لا تنقصه اللجان، فقد تأسست لجنة المحتوى الهابط لتكون بمثابة “شرطة أخلاق رقمية”. وظيفتها ملاحقة الفيديوهات واللايفات كما لو كانت أخطر من شبكات الفساد أو عقود النفط المشبوهة. 
النتيجة: بيانات رسمية، اعتقالات متفرقة، وأحكام تتراوح بين الغرامة والتوقيف، فيما يظل المشهد الاجتماعي على حاله، بل أكثر شغفًا بالمتابعة.
النساء لا يتهدمن باللايفات
الحقيقة المرة أن النساء في العراق لا يتهدمن بسبب بث مباشر، بل بسبب ظروف أعمق: غياب الدعم، انسداد فرص العمل، هيمنة النظرة الذكورية، وضغط مجتمع يهاجم المرأة أكثر مما يحميها. لكن أسهل وسيلة للهروب من مواجهة هذه الحقائق هي إلصاق التهمة بالبلوكرات: “إنهن سبب انهيار الأخلاق”.
قصة “سمراء بغداد” و”زينب بنت الديوانية” و”بنين الموسوي” ليست مجرد حكايات فضائحية من عالم افتراضي، بل مرآة لواقع مرتبك: مجتمع يطارد مظاهر الانحلال على الشاشة، ويغضّ الطرف عن الانهيار الأكبر في السياسة والاقتصاد والثقافة.
البلوكرات هنّ العرض، لا المرض. لكن يبدو أن السلطة – ومعها جمهور غاضب – يفضّلان محاكمة العرض، لأنه أسهل وأسرع من مواجهة أصل الداء.
الأسئلة المفتوحة
• من يضع حدودًا ثابتة لما هو “محتوى هابط”؟ وإلى أي مدى يُشرك المجتمع المدني، المثقفين، المعنيين في وضع هذه الحدود؟
• هل حرية التعبير تبدأ حيث تنتهي “الذوق العام” أم العكس؟ ومن يملك الحق في تحديد “الذوق العام”؟
• ما تأثير هذه الحملات على نفس من يُتهمن؟ هل تُعرّضهن لخطر اجتماعي أو أمني بأكثر مما يقدمون من محتوى؟
• هل يُستخدم هذا الموضوع كغطاء للضغط على بعض الأشخاص، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو حتى انتقامية؟
حينما تُصبح “الشهرة عبر البث المباشر” جريمة محتملة، وعندما تُعامل الكلمات أو الفيديوهات كمتفجرات أخلاقية، نعلم أن خطًّا آخر يُرسم في فضائنا الاجتماعي: خطّ بين من يُسمح له بالتعبير ومن يُسجن على التعبير، بين من يُدان لما هو ليس إلا مظهرًا من مظاهر العصر، وبين من يُعلّق عليه أمال القيم المحافظة.
في النهاية، “البلوكرَة” ليست مجرد مهنة، بل أصبحت مرآة لمجتمعٍ في صراع: بين الواقع الحديث وبين الحساسيات القديمة، بين الطموح الفردي وبين الخوف من التقبّل، بين قانون يُطبَّق وأسرار تُخيّم. وهل من سبق أن حُكم على حلمٍ أو بث مباشر؟ ربما لا، لكن يبدو أن العراق اليوم يختار أن يُقيم المحاكمة أولاً، ثم يراقب الأدلة والنيات بعد ذلك.
.png) 

.png)