خاص - عراقنا بلس
لم يكن إعلان السفارة الأميركية في بغداد عن نفيها الأنباء المتداولة بشأن انسحاب قواتها من العراق يوم السبت مجرد خبر عابر؛ بل جاء ليعيد إلى الواجهة واحدة من أعقد القضايا التي أنهكت السياسة العراقية منذ عقدين: ملف الوجود الأميركي في البلاد.
فبينما تصر واشنطن على أن وجودها "قانوني" و"ضروري" لحماية أمن العراق ومواجهة التهديدات الإرهابية، ترى أطراف سياسية وشعبية عراقية أن ما يجري ليس سوى تكريسٍ لاحتلال طويل الأمد يُقيد سيادة الدولة ويُدخلها في صراعات إقليمية ودولية لا ناقة لها فيها ولا جمل.
ذاكرة مشبعة بالمرارة
لا يحتاج العراقيون إلى كثير من الجهد لاستحضار ذكريات الغزو الأميركي عام 2003 وما تبعه من فوضى أمنية وسياسية واقتصادية. فمنذ ذلك التاريخ، لم تهدأ الأصوات التي تعتبر أن ما جرى لم يكن تحريراً بل احتلالاً مكتمل الأركان، أفضى إلى انهيار مؤسسات الدولة وصعود جماعات مسلحة مختلفة الولاءات.
ورغم أن الولايات المتحدة أعلنت انسحاباً شبه كامل عام 2011، فإن عودتها العسكرية الواسعة عام 2014 تحت ذريعة الحرب على تنظيم "داعش" جعلت قطاعات واسعة من العراقيين تشعر بأن السيادة الوطنية ما تزال ناقصة، وأن القرار الأمني مرهون بإرادة خارجية.
واشنطن ترد بالنفي… وتتمسك بالبقاء
النفي الذي صدر عن السفارة الأميركية بشأن مغادرة القوات لم يقتصر على تكذيب خبر إعلامي، بل حمل في طياته رسالة واضحة: القوات الأميركية ليست في طريقها إلى مغادرة العراق قريباً.
تؤكد واشنطن أن وجودها يتم بناءً على طلب حكومي عراقي، وأنه محصور في التدريب والدعم الفني للقوات المسلحة، إضافة إلى مراقبة التهديدات القادمة من الحدود السورية. إلا أن هذه المبررات لا تقنع القوى الرافضة، التي ترى أن الوجود الأميركي تجاوز حدود "المستشارين العسكريين" وتحول إلى قوة مؤثرة في القرار السياسي والعسكري على حد سواء.
أوساط سياسية: "لا شرعية لبقاء الاحتلال"
الكتل والقوى السياسية المناهضة للوجود الأميركي سارعت إلى التنديد ببيان السفارة. بعض النواب وصفوا بقاء القوات الأجنبية بأنه "انتهاك صارخ للدستور"، مشيرين إلى أن البرلمان سبق وأن أصدر قراراً في يناير 2020 يلزم الحكومة بجدولة انسحاب القوات الأجنبية.
من جهتهم، اعتبرت فصائل مسلحة أن استمرار التواجد الأميركي يمثل استفزازاً مباشراً، مهددة بخيارات "ميدانية" في حال لم تلتزم الحكومة بتحديد موعد قاطع للمغادرة. هكذا يجد العراق نفسه أمام مشهد قابل للاشتعال في أي لحظة إذا لم يُحسن إدارة التوازنات.
الحكومة العراقية: صراع بين الضغوط والواقع
بالنسبة للحكومة العراقية، فإن المعضلة معقدة للغاية. فهي تواجه ضغطاً شعبياً وسياسياً واسعاً يطالبها بالتعامل بجدية مع ملف السيادة، وفي الوقت ذاته تدرك أن خسارة الدعم الأميركي في ملفات أمنية واقتصادية قد تكون مكلفة جداً.
فالعراق ما يزال بحاجة إلى غطاء التحالف الدولي لمراقبة الحدود، كما أن علاقاته المالية مع النظام المصرفي الأميركي تُعد حيوية لاستقرار العملة ولتدفق عائدات النفط. أي قرار متسرع قد يعرض الاقتصاد العراقي لهزات غير محسوبة.
إيران في الخلفية
لا يمكن فهم هذا الجدل بمعزل عن الصراع الأميركي الإيراني. فبقاء القوات الأميركية في العراق يمثل – بالنسبة لطهران – تهديداً مباشراً لنفوذها في المنطقة. ولهذا تدفع القوى الموالية لإيران بقوة باتجاه الضغط على الحكومة العراقية لإنهاء الوجود الأميركي.
من الجانب الآخر، ترى أطراف أخرى أن وجود واشنطن – وإن كان إشكالياً – يشكل توازناً ضرورياً يمنع انفراد إيران بالقرار العراقي. هكذا يتحول الملف إلى ساحة شد وجذب بين قوتين إقليميتين ودوليتين، بينما يبقى العراق الحلقة الأضعف في هذه المعادلة.
الأمن الهش وخطر "داعش"
رغم إعلان هزيمة "داعش" عام 2017، ما تزال بعض المناطق العراقية تشهد هجمات متفرقة للتنظيم. وتستند الولايات المتحدة إلى هذا الواقع لتبرير استمرار قواتها على الأرض.
لكن خصومها يجادلون بأن القوات العراقية والحشد الشعبي أصبحوا قادرين على التعامل مع هذه التهديدات بأنفسهم، وأن واشنطن تفتعل الذرائع لتبرير بقائها، وهو بقاء يجر البلاد إلى مزيد من التوتر بدلاً من تحقيق الاستقرار.
أبعاد اقتصادية لا تقل خطورة
إلى جانب البعد الأمني، هناك بُعد اقتصادي حساس. فالولايات المتحدة تتحكم بجزء كبير من حركة الأموال العراقية عبر البنك الفدرالي الأميركي، كما أن أي توتر سياسي قد يؤدي إلى فرض عقوبات أو تقييد تحويلات مالية تؤثر على السوق الداخلية.
وبالتالي، فإن ملف الوجود العسكري الأميركي لا يمكن النظر إليه فقط من زاوية السيادة، بل أيضاً من زاوية المصالح الاقتصادية، وهو ما يزيد من تعقيد الموقف أمام صناع القرار في بغداد.
السيناريوهات المحتملة
أمام هذا المشهد، تبدو السيناريوهات مفتوحة. فإما أن تواصل القوات الأميركية وجودها بشكل "مُخفف" يُسوّق على أنه دعم فني لا أكثر، أو أن يُصار إلى اتفاق سياسي جديد يحدد جدولة زمنية للانسحاب التدريجي.
أما السيناريو الأكثر خطورة، فهو أن تتحول الضغوط السياسية والشعبية إلى مواجهات ميدانية بين الفصائل المسلحة والقوات الأميركية، وهو مسار قد يعيد العراق إلى أجواء العنف والفوضى التي يسعى لتجاوزها.
خلاصة: سيادة مؤجلة وصراع مفتوح
يُظهر النفي الأميركي الأخير أن الحديث عن انسحاب وشيك ما هو إلا تكهنات لا تستند إلى واقع ملموس. فواشنطن لا تزال ترى في العراق نقطة ارتكاز استراتيجية في المنطقة، بينما يراها جزء واسع من العراقيين عبئاً على السيادة الوطنية.
وبين هذين الموقفين، تبقى الحكومة العراقية عالقة في مربع الحسابات المعقدة، حيث لا تستطيع مواجهة واشنطن بشكل مباشر، ولا تستطيع في الوقت نفسه إقناع الشارع بأن بقاء القوات الأجنبية يصب في مصلحة البلاد.
الملف إذن ليس أمنياً فقط، بل هو اختبار حقيقي لقدرة العراق على فرض سيادته وصياغة قرار مستقل بعيداً عن صراعات الكبار. وحتى يحسم العراقيون أمرهم، سيظل هذا الجدل قائماً: هل تبقى القوات الأميركية حاميةً للاستقرار، أم عبئاً ثقيلاً يعيد إلى الأذهان صورة الاحتلال التي لم تُمحَ من ذاكرة العراقيين بعد؟