خمائل الشيخ - في زاوية الجنوب العراقي حيث تلتقي اليابسة بالماء وتتمازج رائحة التاريخ مع ملوحة البحر يحتدم الجدل من جديد حول خور عبد الله ذاك الممر البحري الذي لم يعد مجرد ملف حدودي بل تحوّل إلى مرآة تعكس هشاشة القرار السياسي العراقي وغليان الشارع الشعبي وتقاطعات المصالح الإقليمية.
فبين خرائط الاستعمار ومقررات الأمم المتحدة وصمت بعض العواصم يقف خور عبد الله شاهداً على معركة وجود لا معركة حدود. وهنا لا يتعلق الأمر فقط بخط بحري مرسوم على الورق بل بمنفذ العراق شبه الوحيد إلى البحر وإرثه السيادي وعقدة الجغرافيا التي يريد البعض أن تتحول إلى صفقة.
يمتد خور عبد الله من الشمال الغربي للخليج العربي ماراً بجزيرتي وربة وبوبيان الكويتيتين وصولاً إلى ميناء أم قصر العراقي. ويُعدّ هذا الممر المائي شرياناً استراتيجياً لموانئ العراق لا سيما مشروع ميناء الفاو الكبير الذي يراهن عليه العراق للخروج من عنق الزجاجة الاقتصادية والتجارية.
لكن ما يعقد المسألة أن ترسيم حدوده البحرية مع الكويت الذي استند إلى القرار الأممي رقم 833 لسنة 1993 جاء في مرحلة ضعف سيادي بعد حرب الخليج الثانية. ومنذ ذلك الوقت ظل العراقيون ينظرون بعين الريبة إلى كل اتفاق أو قرار متعلق بالخور باعتباره نتاج ظرف قسري لا خيار سيادي حر.
مؤخراً، عاد الجدل إلى الساحة السياسية والإعلامية العراقية بعد نشر معلومات عن نية الحكومة العراقية "إعادة النظر" في الاتفاقيات البحرية مع الكويت أو بالأحرى المضي بتثبيت ما يعتبره العراقيون خسارة تاريخية لسيادتهم البحرية.
اللافت أن هذا الحراك لم يأتِ من رأس السلطة بل من قواعد شعبية ونخبوية ومن جهات برلمانية وشخصيات وطنية عبّرت صراحة عن رفضها لأي تنازل ضمني أو صريح في قضية خور عبد الله. وأُطلقت حملة إلكترونية واسعة تحت شعار
(خور عبد الله عراقياً... وليس للبيع) عبّرت عن وجدان جمعي بدأ يشعر أن الحدود تُعاد رسمها بأدوات الصمت أكثر من أدوات الحوار.
وبالعودة إلى الوثائق التاريخية تُظهر بوضوح أن الخور كان ضمن الحدود العراقية في خرائط الحقبة العثمانية وحتى في وثائق البحرية البريطانية في أوائل القرن العشرين. ومع ذلك فإن ما يُقلق العراقيين اليوم ليس التاريخ بل الحاضر.
كيف يُدار هذا الملف؟ ومن يملك القرار؟ وهل هناك شفافية أم أن الجغرافيا تُباع تحت الطاولة؟
ليست المسألة رمزية فقط بل اقتصادية بامتياز. إذ إن خور عبد الله هو المعبر البحري الوحيد لميناء أم قصر والممر الأساسي المرتقب لميناء الفاو الكبير. وأي تقييد عراقي فيه يعني خنق الحلم البحري للعراق وإبقاءه معزولاً عن التجارة البحرية العالمية لصالح موانئ إقليمية منافسة.
إن خسارة الخور أو حتى تقاسم السيادة فيه ستجعل العراق رهينة إرادات بحرية خارجية وتُحوّل مشروع الفاو إلى رهينة جغرافيا مشلولة محكومة بمرور البضائع عبر مياه تُدار خارج الإرادة العراقية.
تكمن خطورة المشهد الحالي في التناقض الصارخ بين المطالب الشعبية بالحفاظ على السيادة التامة في خور عبد الله والتوجهات المائلة للتهدئة مع الكويت والخليج عموماً في ظل ظروف اقتصادية معقدة وحسابات سياسية إقليمية.
وفي هذا السياق، تُطرح تساؤلات مشروعة:
هل هناك نوايا لعقد تسوية تُنهي الجدل على حساب السيادة؟
ولماذا لا يُطرح ملف الخور للاستفتاء الشعبي أو حوار وطني مفتوح؟
وهل يدرك صانعوا القرار أن أي تنازل هنا سيُدوَّن في ذاكرة الجغرافيا كعار لا يُمحى؟
خور عبد الله ليس مسألة قانونية أو تفاهم حدودي بل هو نبض وطنيّ يعكس حجم التحدي الذي يواجه الدولة العراقية
هل تستطيع أن تحمي مرافئها، وشرايينها، وكرامتها الجغرافية؟
الجواب ليس في بيانات الخارجية ولا في الصمت الرسمي بل في صوت الشارع وفي موقف النخب الوطنية وفي عين بحّار جنوبي يقول
"قد نغرق في ملوحة البحر... لكننا لن نغرق في صفقات التفريط."