📁 آخر الأخبار

البرلمان العراقي يفتح بوابة التشريع المذهبي: مدونة الفقه الجعفري بين تثبيت الهوية وتحديات الوحدة

عراقنا بلس - في خطوة وُصفت بالتاريخية والمثيرة للجدل في آن واحد، صوّت البرلمان العراقي مؤخرًا على إدراج "مدونة الأحكام الشرعية للفقه الجعفري" ضمن قانون الأحوال الشخصية، فاتحًا الباب أمام نقاش واسع يتجاوز أروقة السياسة والقانون ليصل إلى عمق المجتمع العراقي المتنوع مذهبياً وثقافياً. القرار لم يكن عادياً؛ فهو يحمل أبعاداً دينية، اجتماعية، وحتى جيوسياسية، تعكس طبيعة التوازنات الحساسة في بلد يظل القانون فيه مرآةً للصراعات والهويات المتعددة.

جذور الفكرة ودور المرجعية

لم يأتِ مشروع المدونة من فراغ، بل انطلق من مطالب دينية قديمة تعود لسنوات، حيث طالبت المرجعية الدينية في النجف بإيجاد إطار قانوني يتيح لأتباع المذهب الجعفري الاحتكام إلى فقههم في شؤون الأحوال الشخصية. هذه المطالب تبلورت في مشروع صاغه ديوان الوقف الشيعي، ليصبح اليوم وثيقة قانونية تضم أكثر من 300 مادة تفصيلية تغطي قضايا الزواج والطلاق والحضانة والمواريث والوصايا وغيرها.

وبحسب تصريحات نواب في البرلمان، فإن إقرار المدونة جاء "وفاءً لحق شرعي" و"خطوة لحماية الخصوصية المذهبية"، خصوصاً أن القانون الموحد رقم 188 لسنة 1959 ظل، برغم تعديله مرات عديدة، لا يلبي بالكامل تطلعات الطائفة الشيعية التي تمثل الأغلبية في العراق.

محتوى المدونة: تفاصيل لا يتضمنها القانون الموحد

القانون الموحد الحالي يضم 94 مادة فقط، بينما تتألف مدونة الفقه الجعفري من 337 مادة، ما يجعلها أكثر شمولاً وتفصيلاً. فهي لا تكتفي بالنص على المبادئ العامة، بل تتوسع في تحديد حالات الطلاق، وتنظيم الزواج المؤقت والدائم، وتفصيل مسائل النفقة والإرث بدقة تتوافق مع الفقه الجعفري.

من أبرز النقاط التي أثارت نقاشاً واسعاً: تنظيم الحضانة. فبحسب المدونة، الأم تتولى حضانة الطفل حتى سن السابعة، ثم تنتقل الحضانة إلى الأب، مع منح الطفل بعد بلوغه حرية اختيار من يعيش معه. كما أُعطيت السلطات القضائية صلاحيات مرنة لتحديد أوقات الرؤية ومكانها بما يتناسب مع مصلحة الأسرة. هذه التفاصيل، برأي أنصار المدونة، تُظهر حرصاً على التوازن الأسري وتقديم حلول عملية لنزاعات الحضانة المتكررة أمام المحاكم.

التأييد: تثبيت هوية وحماية خصوصية

المؤيدون يرون أن المدونة إنجاز تشريعي يضع العراق في مسار جديد نحو تعددية قانونية تعترف بالهويات الدينية والمذهبية للمجتمع. ويعتبرونها خطوة عادلة، طال انتظارها، ستسمح للشيعة بالاحتكام إلى منظومتهم الفقهية ضمن إطار رسمي، بدلاً من الاعتماد على اجتهادات فردية أو قضاء غير متجانس.

بالنسبة لهم، لا يُفترض أن يُنظر إلى المدونة باعتبارها تفتيتاً للقانون المدني، بل باعتبارها تعبيراً عن التنوع العراقي، تماماً كما تسمح بعض الدول ذات الطبيعة التعددية بتشريعات خاصة بالأقليات الدينية أو العرقية. ويرى هؤلاء أن الدمج بين القانون المدني والمدونات الفقهية يمكن أن يعزز الشرعية الشعبية للقوانين ويقلل من النزاعات داخل المجتمع.

المعارضة: مخاوف من إقصاء النساء وتفتيت الوحدة

لكن على الجانب الآخر، لا يخلو المشهد من أصوات معارضة، سواء من منظمات حقوقية أو من داخل البرلمان نفسه. فقد حذرت هيومن رايتس ووتش ومنظمات نسوية محلية من أن المدونة قد تفتح الباب أمام تراجع مكتسبات المرأة العراقية، خصوصاً في قضايا الزواج المبكر، والطلاق، والميراث.

المنتقدون يرون أن النصوص الجديدة، وإن كانت أكثر تفصيلاً، إلا أنها قد تُكرّس التمييز على أساس الجنس، وتحدّ من دور المرأة في الأسرة والمجتمع. كما يخشى البعض أن يؤدي التوسع في "التشريع المذهبي" إلى تقويض الوحدة القانونية للبلد، بحيث يصبح المواطنون محكومين بأنظمة قضائية مختلفة تبعاً لانتماءاتهم الطائفية.

جدل داخلي يهدد النسيج الاجتماعي

إقرار المدونة يعكس في جوهره طبيعة الجدل المستمر في العراق بين المواطنة المدنية والهوية المذهبية. فمن جهة، هناك رغبة في الحفاظ على التنوع ومنح المذاهب حقوقها الكاملة في التشريع، ومن جهة أخرى هناك خشية من أن يتحول هذا التنوع إلى انقسام يقوّض الأسس الوطنية المشتركة.

وليس بعيداً عن ذلك، يشير بعض المحللين إلى أن هذه الخطوة قد تؤدي عملياً إلى ازدواجية في القضاء: محاكم تطبق القانون الموحد، وأخرى تعمل وفق المدونة الجعفرية، وهو ما قد يخلق تعقيدات قانونية ونزاعات متكررة على الاختصاصات.

البعد السياسي: التشريع في زمن الانقسام

من الناحية السياسية، لا يمكن فصل إقرار المدونة عن السياق العام في العراق، حيث تلعب المرجعية الدينية دوراً محورياً في توجيه السياسات، خصوصاً في القضايا الاجتماعية والأخلاقية. كما أن البرلمان، الذي يضم قوى سياسية ذات خلفية مذهبية، وجد في التصويت على المدونة فرصة لإرضاء قواعده الشعبية.

لكن هذه الحسابات السياسية قد تتحول إلى سلاح ذي حدين. فبينما تُظهر القوى الشيعية انسجاماً مع مطالب جمهورها، قد يُفسّر الأمر على أنه تهميش للمكونات الأخرى التي قد تطالب بدورها بتشريعات خاصة بها، مما يضاعف الانقسامات داخل المجتمع.

تداعيات إقليمية محتملة

لا ينفصل الموضوع أيضاً عن البعد الإقليمي. فإقرار مدونة للفقه الجعفري في العراق قد يُعتبر من قبل مراقبين خطوة في إطار تعزيز الهوية الشيعية السياسية والقانونية في المنطقة، وهو ما قد يلقى ترحيباً في بعض العواصم، واعتراضاً في أخرى. هذا البُعد يزيد من حساسية الموضوع، ويجعل من القانون الجديد أكثر من مجرد نصوص داخلية.

المجتمع بين الترحيب والقلق

في الشارع العراقي، الانقسام واضح. البعض رحب بالخطوة باعتبارها إنجازاً طال انتظاره، فيما أعرب آخرون عن قلقهم من أن يتحول القانون إلى أداة لمفاقمة التوترات الأسرية والطائفية. هناك من يرى أن ما يحتاجه العراق اليوم هو قوانين تعزز المواطنة المشتركة وتبني جسور الثقة، لا تشريعات قد تُستخدم لتكريس الفوارق.

خطوة إلى الأمام أم قفزة إلى الوراء؟

في نهاية المطاف، يبقى السؤال الجوهري: هل تمثل مدونة الفقه الجعفري إثراءً للتجربة القانونية العراقية أم بداية مسار جديد نحو الانقسام المذهبي في التشريع؟

المدونة تحمل في طياتها جانباً إيجابياً يتمثل في التفصيل والوضوح، وهو ما كان ينقص القانون الموحد. لكنها في الوقت نفسه تُثير أسئلة صعبة عن حقوق المرأة، ووحدة المجتمع، ومستقبل الدولة المدنية.

العراق يقف اليوم أمام اختبار حقيقي: هل يستطيع أن يوازن بين احترام الخصوصيات المذهبية وبين ضمان المساواة أمام القانون؟ الجواب لن تحسمه النصوص وحدها، بل التجربة العملية لما ستفرزه المحاكم والمجتمع في السنوات القادمة.






تعليقات