خاص - أثار قرار رئيس مجلس محافظة بغداد برفع أجور عمال النظافة من 13 ألف دينار إلى 15 ألف دينار يوميًا، موجة من الجدل بين الاقتصاديين وعمال النظافة أنفسهم. فرغم أن القرار يبدو في ظاهره خطوة إيجابية، إلا أن العاملين في هذا القطاع الشاق يرونه زيادة شكلية لا تتناسب مع غلاء المعيشة وضغط الحياة اليومية.
فبحسبة بسيطة، العامل الذي يتقاضى 15 ألف دينار يوميًا، سيحصل على 450 ألف دينار شهريًا إذا عمل كامل أيام الشهر (30 يومًا). لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون: هل يمكن لأسرة في بغداد العيش بهذا المبلغ؟
عمال النظافة: “الزيادة لا تسد ثغرة”
على أحد أرصفة منطقة الكرادة، وقف قاسم جبار، عامل نظافة يبلغ من العمر 38 عامًا، يستند على مكنسته وينظر إلى أكياس النفايات المكدسة، قبل أن يقول: 15 ألف دينار باليوم يعني 450 ألف بالشهر، وأنا إيجار بيتي 300 ألف دينار، بعد شنو يبقى للأكل، والمواصلات، والكهرباء، والدواء؟”.
يعمل قاسم منذ 12 عامًا في أمانة بغداد، ويقول إن هذه الزيادة: راتبنا أقل من الحد الأدنى للحياة”.
في جانب آخر من العاصمة، كان أمير كاظم، عامل نظافة منذ خمس سنوات، يجمع أكياس النفايات تحت حرارة الشمس التي لامست 47 درجة مئوية. يقول وهو يمسح العرق عن جبينه: نشتغل بالبرد القارس وبالحر القاتل، ما عدنا تأمين صحي حقيقي، وإذا نمرض نغيب يوم واحد ينقص من راتبنا، والآن يقولون زادوا 2000 دينار باليوم! يعني شنو؟ 60 ألف دينار زيادة بالشهر؟”.
الخبراء: الزيادة أقل من معدل التضخم
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور سيف الدين العلي أن هذه الزيادة، رغم رمزيتها، لا تواكب معدل التضخم في العراق. ويشرح: التضخم السنوي في البلاد يقترب من 5%، وارتفاع الأسعار في بغداد، خصوصًا المواد الغذائية والإيجارات، أكبر بكثير من ذلك. فإذا قارنا الـ 450 ألف دينار بدخل الأسرة المثالي لتغطية الحاجات الأساسية، نجد أن العامل يحتاج على الأقل إلى 1.2 مليون دينار شهريًا”.
ويضيف العلي بأن "الزيادة الجديدة، وهي 60 ألف دينار شهريًا، “تُستهلك بالكامل خلال أول أسبوع من الشهر بسبب ارتفاع أسعار الخضروات، اللحوم، والكهرباء الأهلية”.
معادلة غير منصفة
الخبير الاقتصادي مؤيد عبدالرزاق يوضح أن "المشكلة لا تكمن في الأجر اليومي نفسه فقط، بل في غياب سياسة شاملة لتحسين أوضاع هذه الفئة. ويقول: عمال النظافة يعملون في ظروف تعتبر من الأخطر صحيًا ومهنيًا، لكنهم يتقاضون أقل من الحد الأدنى لأجور القطاع الخاص في بعض الدول المجاورة. لا يوجد بدل خطر، ولا بدل سكن، ولا ضمان صحي فعّال، وكل ما يحصلون عليه هو أجر بالكاد يسد الرمق”.
ويشير مؤيد إلى أن “قرار زيادة الأجور يجب أن يكون جزءًا من برنامج إصلاح شامل، يتضمن منح عمال النظافة راتبًا ثابتًا مع ضمان اجتماعي وتأمين صحي، بدلًا من نظام الأجر اليومي الذي يُشعرهم بعدم الأمان الوظيفي”.
غلاء المعيشة في بغداد: الفجوة تتسع
وفق بيانات غير رسمية حصل عليها مراسلنا، فإن متوسط أسعار المواد الأساسية في بغداد لشهر تموز 2025 كالآتي:
• إيجار شقة صغيرة: 250–350 ألف دينار شهريًا.
• سلة غذائية أساسية (رز، زيت، طحين، خضروات): 200 ألف دينار شهريًا.
• كهرباء أهلية: 50–100 ألف دينار شهريًا.
• مواصلات: 75 ألف دينار شهريًا.
وبعملية حسابية، يتضح أن أي عامل نظافة يتقاضى 450 ألف دينار شهريًا، يواجه عجزًا لا يقل عن 150 ألف دينار شهريًا لتغطية الحاجات الأساسية فقط، دون الترفيه أو الطوارئ.
أصوات من الميدان: “نريد كرامة قبل الزيادة”
في ساحة الطيران، كان خليل إبراهيم، عامل نظافة منذ 8 سنوات، يجلس على الرصيف بعد انتهاء نوبته، ويشرب قنينة ماء دافئة. قال لمراسلنا: الزيادة إذا ما ترافقها ضمان صحي ومستلزمات عمل، ما تسوى. أحذيتنا نمشتريها إحنا، الكفوف نشتريها إحنا، والكمامات ما يوزعون إلا وقت التفتيش”.
ويضيف خليل بنبرة غاضبة: تريدون نعيش بكرامة، مو بس يطونا 2000 دينار زيادة ويصورونا للإعلام”.
البعد الإنساني في القرار
تقول الناشطة الاجتماعية ابتسام الدوري، التي تتابع أوضاع عمال النظافة في بغداد، إن “القرار الأخير يحمل بعدًا سياسيًا أكثر من كونه اقتصاديًا”. وتضيف: في المناسبات أو مع اقتراب الانتخابات، تُعلن قرارات زيادة الأجور، لكن التنفيذ الفعلي لا يحل مشكلة الفقر. ما يحتاجه العمال هو خطة طويلة الأمد تحميهم من الغلاء وتضمن لهم معاشًا لائقًا بعد التقاعد”.
الزيادة خطوة صغيرة في طريق طويل
رغم أن قرار رفع الأجر اليومي من 13 ألفًا إلى 15 ألف دينار قد يُعتبر “تحسنًا” من منظور بعض المسؤولين، إلا أن الواقع المعيشي لعمال النظافة في بغداد يكشف فجوة هائلة بين الأجر الحالي ومتطلبات الحياة الأساسية.
العمال يريدون أكثر من مجرد زيادة طفيفة: يريدون تأمينًا صحيًا، ضمانًا اجتماعيًا، بدل خطر، وأجورًا تعكس قيمة عملهم في الحفاظ على نظافة العاصمة.
إلى أن يتحقق ذلك، ستظل زيادة الألفي دينار اليومية مجرد رقم على الورق، لا يغيّر كثيرًا من المعاناة التي يعيشها هؤلاء الجنود المجهولون في معركة النظافة.