📁 آخر الأخبار

حين قاتل العراقيون في نينوى: الأرض تنطق بالبطولة

سدن سالم - في العاشر من حزيران/يونيو 2014، استيقظ العراقيون على واحدة من أكثر اللحظات إيلاماً في تاريخ بلادهم المعاصر. فقد سقطت مدينة الموصل، ثاني كبرى مدن العراق، بيد تنظيم داعش الإرهابي، في مشهد صادم هزّ ضمير الأمة، وفتح جراحاً ما تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.

اليوم، وبعد مرور أحد عشر عاماً على ذلك الحدث، يتذكر العراقيون بوجع وفخر كيف واجهت القوات العراقية، من الجيش والشرطة الاتحادية وقوات مكافحة الإرهاب والحشد الشعبي، التحدي الأكبر في تاريخها الحديث، وسطروا ملحمة بطولية انتهت بتحرير نينوى في تموز 2017، بعد معارك شرسة استمرت لما يقارب ثلاث سنوات.


السقوط… والانهيار الصادم

في ساعات قليلة، انهارت منظومة أمنية في الموصل كانت تضم الآلاف من الجنود ورجال الشرطة، أمام هجوم مباغت من عناصر داعش الذين استغلوا ضعف القيادة الميدانية، وتآكل الثقة بين المواطن والقوات الأمنية، بالإضافة إلى عوامل سياسية وإدارية ساهمت في تلك الكارثة.

انسحب الجيش تاركًا ورائه معداته الثقيلة ومخازن الأسلحة، فيما لجأ الآلاف من سكان المدينة إلى النزوح أو الاختباء، في ظل سيطرة التنظيم المتطرف الذي فرض أحكامه الوحشية على المدنيين، وارتكب مجازر بحق الأقليات الدينية والعرقية.


معركة التحرير: تلاحم البطولات

مع بدء إعادة تنظيم الصفوف، دخلت القوات العراقية في مسار جديد من التحدي، تمثل في استعادة الموصل ومحافظة نينوى. بدأت عمليات التحرير تدريجياً من أطراف المحافظة، وشاركت في هذه المعركة التاريخية جميع صنوف القوات العراقية:

الجيش العراقي، وخاصة الفرقة الذهبية، وقوات الفرقة التاسعة المدرعة، التي كانت في طليعة التقدم نحو الموصل.

الشرطة الاتحادية، التي قاتلت بشراسة في الأحياء الضيقة والمكتظة بالسكان في الجانب الأيمن للموصل.

قوات مكافحة الإرهاب، المعروفة بانضباطها العالي وكفاءتها القتالية، والتي واجهت أشرس مقاومة من داعش داخل المدينة القديمة.

الحشد الشعبي، الذي لعب دوراً محورياً في قطع خطوط الإمداد عن داعش من جهة الحدود السورية، وتأمين مناطق الحزام الغربي للمحافظة.

معركة تحرير الموصل كانت حرب شوارع مريرة، استُخدمت فيها أساليب حرب المدن، والكمائن، والمفخخات، والقناصة، إضافة إلى استعمال داعش للمدنيين كدروع بشرية. ورغم كل ذلك، استطاعت القوات العراقية تحرير المدينة بالكامل في يوليو 2017، وسط احتفالات غامرة في عموم البلاد.


دماء الشهداء.. وجراح لا تندمل

لم تكن معركة التحرير بلا ثمن. فقد قدّمت القوات الأمنية العراقية آلاف الشهداء والجرحى في سبيل استعادة الموصل وإنهاء سيطرة الإرهاب على أراضيها. كثير من هؤلاء الأبطال سقطوا وهم يقاتلون ببسالة في أزقة المدينة القديمة، حاملين أرواحهم على أكفهم دفاعاً عن الأرض والعرض.

وتبقى أسماؤهم محفورة في ذاكرة العراقيين، وفي ضمائر أبناء نينوى الذين عانوا طويلاً من ظلم داعش، وكانوا شهودًا على ملاحم البطولة التي سطرتها تلك الدماء الطاهرة.


الاستحقاقات المالية والحقوق المنسية

رغم مرور سنوات على التحرير، لا تزال الكثير من عوائل الشهداء والجرحى يعانون من عدم نيلهم لكامل حقوقهم واستحقاقاتهم المالية التي أقرّتها القوانين العراقية. فبين تأخّر المعاملات الإدارية، ونقص التنسيق بين الوزارات، والروتين البيروقراطي، ما زال العديد منهم ينتظر من الدولة أن تردّ لهم بعضاً من جميل أبنائهم الذين ضحّوا بحياتهم من أجل الوطن.

وقد طالبت منظمات حقوقية وأوساط شعبية مراراً بضرورة تسريع إجراءات صرف الرواتب التقاعدية، وتعويض الجرحى مادياً ومعنوياً، وتوفير فرص العمل لعوائل الشهداء، والتعليم المجاني لأبنائهم، وهو ما نصّت عليه التشريعات العراقية، لكن التنفيذ على الأرض لا يزال متعثراً في كثير من الحالات.


الموصل تنهض من جديد

رغم المأساة العميقة التي عصفت بالمدينة، فإن الموصل أثبتت قدرتها على النهوض من تحت الرماد. فقد بدأت المدينة منذ سنوات تستعيد عافيتها تدريجياً، من خلال حملات إعادة الإعمار، وعودة الخدمات الأساسية، وانتعاش الحركة التجارية والتعليمية.

ويُعد افتتاح مطار الموصل الدولي مؤخراً، حدثاً رمزياً بالغ الدلالة، يعكس استعادة المدينة لدورها الحيوي في الخريطة العراقية. فالمطار لا يمثل مجرد بنية تحتية، بل بوابة حيوية للتنمية والانفتاح على العالم، ورسالة واضحة بأن الموصل عادت لتكون من أهم مدن العراق على المستويين الاقتصادي واللوجستي.

هذا التطور يعكس إصرار أهل المدينة، ووعيهم العميق بأهمية تجاوز محنة الماضي وبناء مستقبل يليق بتاريخهم، ويستند إلى التضحيات التي صُنعت لأجلهم.


خاتمة: الذاكرة والوفاء

سقوط الموصل لم يكن مجرد كارثة أمنية، بل درس تاريخي في كيف يمكن أن يؤدي الإهمال والفساد والتناحر السياسي إلى انهيارات كبرى. ولكن التحرير كان أيضاً درساً في الإرادة والبطولة والانتماء.

واليوم، في الذكرى الحادية عشرة، لا بد من تجديد العهد لمن ضحوا، بأن العراق لن ينسى شهداءه، ولن يتهاون في المطالبة بحقوق من دافعوا عن حياضه. فدماؤهم أمانة، وذكراهم نبراس، وانتصارهم شهادة خالدة بأن العراق عصيّ على الانكسار… وأن الموصل، كما العراق، لا تموت.




تعليقات