ناجي الغزي - في زمن تتسارع فيه وتيرة المعلومات وتتشابك فيه الخيوط بين الحقيقة والتضليل، يقف الإعلام في العراق عند مفترق طرق خطير. فعلى الرغم من كونه أحد أهم أدوات التواصل بين الدولة والمجتمع، إلا أنه تحول في إلى ساحة من الفوضى العارمة، يعجّ فيها المحتوى الهابط الغير منضبط، وتفتقد فيها الضوابط الأخلاقية والمهنية واللياقة الادبية، في وقت يتصاعد فيه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي لتفرض واقعاً وإيقاعاً جديداً على وعي الفرد العراقي، وعلى مجمل سيرورة القرار السياسي في البلاد.
الإعلام من أداة توعية إلى منصّة تضليل
لم يعد الإعلام العراقي في معظمه يمارس دوره الطبيعي في تثقيف المواطن وبناء وعي جمعي قادر على المساهمة في استقرار الدولة وتوجيه القرار، بل تحوّل إلى ميدان مفتوح بلا حراسة، تنتشر فيه الأخبار المفبركة، وتسود فيه حملات التسقيط السياسي والاخلاقي، وتهيمن عليه حسابات وهمية مرتبطة بأجندات حزبية أو إقليمية. لا توجد مؤسسات إعلامية مستقلة ذات نفوذ يُذكر، كما أن الإعلام الرسمي غالباً ما يبدو بطيئاً، منفعلاً، أو تابعاً لإيقاع شبكات التواصل.
النتيجة المباشرة لهذه الفوضى الإعلامية أن صناعة القرار في العراق باتت تتأثر بتقلبات الرأي العام غير المحسوب. يتلقى صانع القرار إشارات مرتبكة من جمهور مشوش، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى قرارات مرتجلة، تفتقر إلى العمق والتخطيط. أصبح المزاج الشعبي، الذي تصنعه تغريدات ومقاطع قصيرة، أداة ضغط قد تدفع باتجاه مسارات سياسية غير واقعية، بل وخطيرة.
الصين: الإعلام أداة للضبط والسيطرة
على النقيض من الفوضى الإعلامية في العراق، الصين رغم كثافتها السكانية الهائلة الا انها تمثل إنموذجاً صارماً للضبط الإعلامي المرتبط بالرؤية الاستراتيجية للدولة. فهناك، تُدار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ضمن إطار محكم يربط بين الأمن القومي، والانسجام الاجتماعي، ومصالح الدولة العليا. تُراقب المنصات وتُخضع للمساءلة، وتُسخّر لخدمة السياسات العامة لا لهدمها. وهكذا، يتم تطويع الرأي العام باتجاه الدعم، لا الفوضى، بل ويتم احتواء الأزمات الإعلامية داخلياً قبل أن تتفاقم.
الإمارات: إعلام في خدمة الدولة
وفي الإمارات العربية المتحدة، تُدار المنظومة الإعلامية باحترافية عالية، ترتكز على مفهوم "الإعلام التنموي". الإعلام هناك ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل شريك في بناء الدولة وتعزيز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة. كما أن الدولة تواكب أدوات العصر، فتبني منصات تواصل ذكية وموثوقة، تُدار من قبل مؤسسات رسمية وشبه رسمية، مما يقطع الطريق على أي اختراق للاجندات الخارجية. ويعزز من مكانة الدولة إقليمياً ودولياً في سباق صناعة الصورة الذهنية.
تركيا: الإعلام تحت السيطرة
أما تركيا، فعلى الرغم من التعدد الإعلامي فيها، إلا أن الدولة، خصوصاً منذ العقد الأخير، أوجدت توازناً دقيقاً بين حرية التعبير وضبط التدفق الإعلامي. تدرك القيادة التركية أن الفضاء الإعلامي هو ساحة معركة سياسية بامتياز، لذا تُسخّر أدواتها لضبط الرسائل التي تصل إلى الجمهور، وتوجيهها ضمن سياق يخدم مصالح النظام السياسي والاستقرار الداخلي. الإعلام هناك أداة تعبئة، لا تشرذم.
العراق والهوة المفتوحة
في المقابل، يبدو العراق وكأنه ترك أبوابه الإعلامية مشرعة دون خطة، أو حتى إرادة للضبط. ترك المواطن نهباً للمحتوى الرديء، والمصالح المتصارعة، والعناوين الصادمة التي لا تصنع وعياً، بل تهدمه. لا توجد سياسة إعلامية وطنية، ولا مشروع ثقافي مضاد للفوضى الرقمية. بل حتى صانع القرار نفسه أصبح يتلقى معلوماته من المنصات المفتوحة، دون تدقيق أو غربلة، مما يُضعف من مركزية الدولة، ويمنح الفوضى الإعلامية سلطة فعلية في إعادة تشكيل الرأي العام.
بين الضبط والتسيب
تظهر المقارنة بوضوح: في الدول الكبرى والإقليمية، يُستخدم الإعلام كوسيلة لتعزيز القوة الناعمة وتحقيق الاستقرار السياسي، بينما في العراق، تحوّل الإعلام إلى تهديد للاستقرار وساحة لتفتيت الوعي. وعليه، لا يمكن الحديث عن قرار سياسي رشيد في ظل إعلام فوضوي، ولا عن رأي عام ناضج في ظل سيل متدفق من المحتوى المضلل.
الحل يبدأ من تبني مشروع وطني إعلامي، يُعيد ضبط المشهد، ويربط الإعلام بالأمن المجتمعي، ويمنح المواطن حق المعرفة لا وهمها، ويُحرر القرار من قبضة الشائعات، ويمنح الدولة مناعة ضد التصدع المعرفي.